شرح كلمة
السَبي البابلي | سبي بابل | سبي المملكة الجنوبية | سبي يهوذا
بينما تعاقبت على المملكة الشمالية عدة أسرات ملكية، ظلت يهوذا وأورشليم مواليتين لبيت داود حتى النهاية، فقد قامت المملكة الجنوبية على أساس أكثر رسوخاً، وصمدت أورشليم بهيكلها وكهنوتها أمام الأعداء الذين أطاحوا بالسامرة، لمدة نحو قرن ونصف بعد سقوط السامرة.
(1) تفكك الإمبراطورية الأشورية:
جاء بعد سرجون الذي أطاح بالسامرة في 722 ق.م ملوك عظام اشتهروا بفتوحاتهم ومبانيهم التي تمثل حضارة عصرهم، فجاء سنحاريب وآسرحدون وأشور بانبيال وبعد أن مات أشور بانبيال في 625ق.م أشرفت الإمبراطورية الأشورية على الانحلال ، فوهنت قبضتها على الناطق الغربية وبدأت شعوبها في التمرد على نينوى، وأخذت عصابات سكيثية في الزحف من المناطق الواقعة بين جبال القوقاز وبحر قزوين، إلى أملاك الإمبراطورية الأشورية حتى حدود فلسطين ومصر. وتنم نبوات إرميا وصفنيا عن أساليبهم الحربية وشراستهم البربرية، ولكنهم رُدّوا على أعقابهم عند الحدود المصرية، ويبدو أنهم عادوا إلى الشمال دون أن يغزوا يهوذا.
(2) سقوط نينوى في 606ق.م:
ثم شرعت هذه الجحافل الشمالية في الزحف نحو نينوى، التي كانت قوتها قد بدأت في الاضمحلال. ويرسم ناحوم النبي صورة للفرح الذي يعم مملكة يهوذا لتوقع سقوط نينوى: "وحي على نينوى.. هوذا على الجبال قدما مبشر مناد بالسلام. عيِّدي يا يهوذا أعيادك، أوفي نذورك، فإنه لا يعود يعبر فيك أيضاً المهلك. قد انقرض كله" (ناحوم 1: 1 و15، انظر أيضاً 3: 8-11) واستعاد الماديون استقلالهم وتحالفوا بقيادة ملكهم "سياجزريس" (Cyaxaris) مع الكلدانيين الذين ثاروا بعد ذلك بقيادة نبوبولاسَّار حاكم بابل من قبل أشور (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). وحشد نبوبولاسَّار كل هذه العناصر تحت رايته، وحاصر عاصمة أشور، فسقطت في يده نينوى عاصمة الفاتحين العظام، والتى وصفها النبي بالقول: "أكثرت تجارك أكثر من نجوم السماء" (نا3: 16) سقطت نينوى في 606ق.م أمام جحافل الماديين والكلدانيين، سقوطاً لم تقم بعده أبداً، وقامت على أنقاضها الإمبراطورية الكلدانية، التي كان من أبرز ملوكها نبوخذ نصر الذي أشركه أبوه نبوبولاسَّار في الحكم معه.
(3) تمرد نخو فرعون مصر:
ونستطيع أن نفهم جيداً سبب الفرح الذي عمَّ يهوذا لسقوط نينوى والإمبراطورية الأشورية. لقد نجت أورشليم برحمة الله، عندما اكتسح سنحاريب المناطق المحيطة بها، وأسر منها نحو 200.150 نفساً، ودمر المدن والحصون، وظلت يهوذا ترزح تحت نير أشور البغيض، فقد بسطت نفوذها ليس على يهوذا فقط، بل على مصر ووادي النيل. وفى 608ق.م تمرد نخو فرعون مصر على أشور وزحف بجيشه شرقاً، ولم تكن به رغبة في المواجهة مع يوشيا ملك يهوذا، ولكن كان لابد له من المرور في أرض يهوذا، فاعترض يوشيا – ولاء منه لأشور – طريق فرعون، فقُتل في معركة مجدو. ويبدو أن فرعون رجع إلى مصر آخذاً معه يهوآحاز بن يوشيا، بعد أن عين أخاه يهوياقيم ملكاً على يهوذا، وفرض جزية باهظة على البلاد.
(4) معركة كركميش في 604ق.م:
لم يرجع نخو عن هدفه فى الزحف نحو الشرق، فتقدم بجيشه حتى وصل نهر الفرات، وهناك لقي هزيمة منكرة على يد نبوخذ نصر ملك بابل، في معركة حاسمة فى كركميش في 604ق.م. وخرج الكلدانيون من المعركة وهم سادة أسيا الغربية، وانتقلت يهوذا من تحت سيادة أشور، وأصبحت تحت سيادة بابل.
(5) الامبراطورية البابلية الجديدة في عهد نبوخذ نصر، 604 إلى 562 ق.م:
لم يكن ثمة فرق بين قسوة البابليين وقسوة الأشوريين، فيقول حبقوق عن الأمة الكلدانية: "هي هائلة ومخوفة.. خيلها أسرع من النمور وأحد (أشرس) من ذئاب المساء.. وفرسانها يأتون من بعيد ويطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل" (حب1: 7 و
. وأصبح نبوخذ نصر - بعد معركة كركميش - سيداً على كل غربي أسيا بما فيها يهوذا. وكان من العبث أن تستنجد يهوذا بمصر، فقد كانت لنبوخذ نصر ذراع طويلة يؤدب بها كل من يخرج على طاعته.
وكانت رسالة إرميا النبي – في تلك الأوقات العصيبة في تاريخ يهوذا هي أن يخضعوا لملك بابل، وأن يصلحوا طرقهم أمام الرب، حتى ينجوا من الغضب الإلهى الذي يتهددهم، فيخبرهم - بأمر الرب - بالدينونة التي ستحل بأورشليم والشعوب المجاورة، على يد الكلدانيين. بل إنه يتنبأ بالمدة التى سيقضونها تحت حكم الكلدانيين: "وتصير كل هذا الأرض خراباً ودهشاً، وتخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة" (إرميا 25: 11). وكانت هذه الرسالة غير مقبولة عند الموالين لمصر، الذين كانوا يتكلون على مناعة أورشليم. ولكن إرميا - بتوبيخه القارص، وبأعمال رمزية - أنبأهم بمصير أورشليم، متحملاً في سبيل ذلك الاضطهاد الشديد، بل إن حياته نفسها تعرضت للخطر.
(6) تمرد يهوياقيم وعقابه (608-597ق.م):
خضع يهوياقيم أولاً لنخو فرعون مصر، ثم خضع لنبوخذ نصر، وكان على مثال شعبه من الشر والفساد، إذ يتهمه إرميا بالجشع وسفك الدماء البريئة والظلم والخطف والاغتصاب (إرميا 22: 13-19). وكانت السنة الرابعة ليهوياقيم هي السنة الأولى لنبوخذ نصر (إرميا 25: 1) الذي انتشى بنصره في موقعة كركميش، وأصبحت سطوته ملموسة في العالم الغربي، وأصبح ملك يهوذا الخائن عبداً للملك نبوخذ نصر، وظل على هذه الحال ثلاث سنوات، تمرد بعدها على نبوخذ نصر، ولم يقف بجانبه أحد من الشعوب المجاورة، "فأرسل الرب عليه غزاة الكلدانيين وغزاة الأراميين وغزاة الموآبيين وغزاة بني عمون، وأرسلهم على يهوذا ليبيدها حسب كلام الرب الذي تكلم به على يد عبيده الأنبياء" (2مل 24: 2).
(7) السبي الأول (606 ق.م):
نقرأ في سفر دانيال "فى السنة الثالثة من ملك يهوياقيم ملك يهوذا، ذهب نبوخذ نصر ملك بابل إلى أورشليم وحاصرها" (دانيال 1: 1) وأخذ معه بعض آنية بين الله وبعض أفراد من النسل الملكي وشرفاء يهوذا، وكان من بينهم دانيال النبي ورفقائه.
وتاريخ الجزء الأخير من حياة يهوياقيم يبدو غامضاً ، إذ يذكر سفر الملوك الثاني أن يهوياقيم - بعد أن ملك 11سنة - أضطجع مع آبائه (2مل 24: 5 و6) . ونفهم من ذلك أنه مات ميتة طبيعية، ولكن يبدو مما ذكرناه من سفر دانيال، أن السبي الأول كان يشمل يهوياقيم نفسه، وهو ما يؤكده سفر الأخبار حيث يقول: "عليه صعد نبوخذنصر ملك بابل وقيده بسلاسل نحاس ليذهب به إلى بابل" (2أخ 36: 6)، ويضيف سفر الملوك: "ولم يعد أيضاً ملك مصر يخرج من أرضه لأن ملك بابل أخذ من نهر مصر إلى نهر الفرات، كل ما كان لملك مصر" (2مل 24: 2). وتحسب مدة السبعين سنة من سنة السبي الأول (606ق.م).
(
حصار أورشليم وسقوطها في أيام يهوياكين في 597 ق.م:
ملك يهوياكين، والذي خلف أباه يهوياقيم ثلاثة شهور فقط - وهي نفس المدة التي ملكها يهوآحاز من قبل - وقد سُبي يهوآحاز إلى مصر، وسُبي يهوياكين إلى بابل. ويصف حزقيال سبيهما في مرثاة رائعة، فيقارنهما بشبلي أسد، ابنى لبوءة - كناية عن إسرائيل - تعلَّم كل منهما افتراس الفريسة وأكل الناس ، ولكنهما كليهما وقعا في حفرة الأمم، ووُضعا في قفص بخزائم لكيلا يُسمع صوتهما بعد ذلك على جبال إسرائيل (حز 19: 1-9).
(9) السبي الثاني (597 ق.م):
جاء نبوخذ نصر بنفسه فى أثناء حصار عبيده لأورشليم، فاستسلم له يهوياكين، فأخذ نبوخذ نصر ملك بابل، الملك يهوياكين وأمه وعبيده ورؤساءه وخصيانه وجميع جبابرة البأس "عشرة آلاف مسبي، وجميع الصناع والأقيان. لم يبق أحد إلا مساكين شعب الأرض" كما حمل معه "كل خزائن بيت الرب وخزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وكسَّر كل آنية الذهب التي عملها سليمان ملك إسرائيل في هيكل الرب، كما تكلم الرب.. وجميع أصحاب البأس سبعة آلاف، والصناع والأقيان ألف، وجميع الأبطال أهل الحرب، سباهم ملك بابل إلى بابل. وملَّك ملك بابل متنيا عمه عوضاً عنه وغَّير اسمه إلى صدقيا" (2مل 24: 10-17) وعاش يهوياكين الملك المسكين 37سنة أسيراً في بابل. ويبدو أنه كان يحظى باحترام وولاء المسبيين الذين عاش بينهم، إلى أن رفع أويل مرودخ ملك بابل في سنة تملكه رأس يهوياكين من السجن (2مل 25: 27-30).
وكان إجلاء الأمراء والصناع والأقيان هو موضوع رؤية إرميا لسلتي التين، اللتين كان فى إحداهما تين جيد جداً، وفى الأخرى تين ردئ جداً لا يؤكل من رداءته (إرميا 24: 1-3). فالتين الجيد هم المسبيون من يهوذا الذين أُخذوا إلى أرض الكلدانيين للخير، أما التين الردئ فهم الملك صدوقيا والأمراء والباقون في أورشليم الذين كانت تنتظرهم دينونة قاسية حتى يفنوا عن وجه الأرض (إرميا 24: 4-10).
(10) خدمة حزقيال 592-570ق.م:
كان بين المسبيين إلى بابل الذين وضعوا على ضفاف نهر خابور، حزقيال النبي الكاهن. وبعد السبي بخمس سنوات، بدأ يقص رؤياه العجيبة، ويعلن أهميتها للمسبيين عند أنهار بابل. ولم يكن حزقيال ليستطيع أن يعلن للمسبيين - الذين كانت تخيم عليهم الكآبة - أنباء تدمير أورشليم إلا بالرموز والكنايات، إلى اليوم الذي وصلتهم فيه الأخبار المحزنة عن سقوط مملكة يهوذا وخراب المدينة وحرق الهيكل. ولكن لم ينطق حزقيال- لأولئك الأسرى المحطمين البائسين - بالمراثي الحزينة، كالتى نطق بها إرميا - بل بالحري تنبأ لهم بأخبار مفرحة عن إعادة بناء المدينة وقيام المملكة وإعادة تشييد الهيكل العظيم.
(11) خدمة إرميا في أورشليم 597-588ق.م:
رغم سبي زهرة شباب الشعب وشرفائه إلى بابل، ونهب كنوز الهيكل، فإن أورشليم والهيكل كانا مازالا قائمين. وكانت لدى إرميا رسالة للشعب الباقي في الأرض، وكذلك للذين سُبوا إلى بابل. فقد قام نصيحة للمسبيين بأن يخضعوا، مؤكداً لهم أن العبادات الوثنية البغيضة التي حولهم، يجب أن تجعلهم يرجعون إلى شريعة إلههم، وهكذا يرفعون الحالة الأدبية والروحية في وسطهم: "هكذا قال الرب:.. أعطيهم قلباً ليعرفوني اني أنا الرب فيكونوا لي شعباً وأنا أكون لهم إلهاً لأنهم يرجعون إلىَّ بكل قلوبهم" (إرميا 24: 5 و7). ولم تجد نبواته ومشوراته، عند الباقين في أورشليم، أذاناً صاغية، بل بالحري غرضته للاتهام بالخيانة لشعبه ولله . وكانت أشد تحذيراته وأوقعها تأثيراً، تلك الصورة الرمزية من وضع الربط والأنيار على عنقه وارسالها "إلى ملك أدوم وإلى ملك موآب، وإلى بني عمون وإلى ملك صور وإلى ملك صيدون" الذين يبدو أنه كانت لديهم فكرة تكوين حلف ضد نبوخذ نصر (إرميا 27: 1-11). كما حث صدقيا الملك على الخضوع لملك بابل، لعل ملك بابل يسمح للمسبيين من يهوذا بالعودة. ولكن صدقيا أضاع هذه الفرصة بتآمره مع فرعون مصر الشاب، "حفرع" (أبريس)، وذلك بتحريض من الحزب الموالي لمصر. وهكذا تمرد صدقيا على ملك بابل (2مل24: 20).
(12) تمرد صدقيا وحصار أورشليم 588-586ق.م:
كانت تلك خطوة جريئة، ولم يكن في طوق نبوخذ نصر أن يقبل مثل هذه الخيانة من أحد أتباعه، فزحف على الفور إلى الغرب، وأوكل إلى نبوزرادان مهمة الاستيلاء على أورشليم، بينما أقام هو قاعدته في ربلة على نهر الأورنت في سورية . وفى تلك الأثناء عبر فرعون مصر مع جيشه الحدود لمعاونة حلفائه، وأجبر الكلدانيين على رفع الحصار عن أورشليم، والالتحام معه في معركة (إرميا 37: 5). وهنا خانته شجاعته، فقفل راجعاً على أعقابه قبل الدخول فى معركة، فعاد نبوزرادان بجيشه لمحاصرة أورشليم، وضيَّق عليها الخناق أكثر من قبل.
وفى الفترة التي تنفست فيها أورشليم الصعداء، لانسحاب الكلدانيين، خرج إرميا من المدينة قاصداً بلدته عناثوث في شأن عائلي (إرميا 37: 11-15)، وأكتُشف خروجه وأتهم بأنه "يقع للكلدانيين"، فقُبض عليه ووضع في السجن في بيت يوناثان الكاتب، وبينما هو في السجن ، استدعاه الملك وسأله: "هل توجد كلمة من قِبل الرب ؟ فقال إرميا (بلا خوف): توجد، فقال إنك تدفع ليد ملك بابل" (إرميا 37: 17). وبأمر من صدقيا الملك تمتع إرميا بعد ذلك بنوع من الحرية. ولكن إذ واصل تحريضه للشعب على الاستسلام، تعاهد أعداؤه على قتله، وألقوا به في جب ماء - ولم يكن به ماء بل وحل - حيث كان معرضاً لخطر الاختناق أو الموت جوعاً. ولكن الملك استدعاه مرة ثانية، ووعده بأنه لن يقتله ولن يسمح لأعدائه بالقضاء عليه، فأشار عليه النبي مرة أخرى بالاستسلام لملك بابل، وسُمح لإرميا بنوع من الحرية.
(13) تدمير أورشليم، والسبي الثالث في 586ق.م:
كانت نهاية المدينة قد اقتربت، ففي السنة الحادية عشرة لصدقيا في 586ق.م في الشهر الرابع، في اليوم التاسع من الشهر، ثُغرت المدينة (إرميا 39: 1 و2) بعد أن أرهقها الحصار والمجاعة. ويبدو أن صدقيا ورجال الحرب لم ينتظروا بالمدينة حتى سقوطها، بل هربوا من المدينة ليلاً "فى طريق جنة الملك من الباب بين السورين"، وساروا شرقاً نحو العربة، ولكن جيش الكلدانيين سعى وراءهم، فأدركوا صدقيا في سهول أريحا، وأخذوه أسيراً وأحضروه إلى نبوخذنصر في ربلة. فقتل ملك بابل بني صدقيا أمام عينيه، ثم قلعوا عيني صدقيا وقيوه بسلسلتين من نحاس وجاءوا به إلى بابل (2مل25: 4-7). ولم ينج من هذه المرة لا المدينة ولا الهيكل ولا القصر، فقد أحرق نبوزرادان "بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت العظماء، أحرقها بالنار" (2مل25: 9)، كما هدم جنوده أسوار أورشليم. وكل ما نجا من كنوز الهيكل وأمتعته الثمينة، نُقل إلى بابل (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). لقد كان خراب أورشليم كاملاً. ويعَّبر سفر مراثي إرميا عن مشاعر الحزن والأسى والعار التي جاشت في نفس شاهد عيان لِمَا حاق بالمدينة المقدسة: "أتم الرب غيظه، سكب حمو غضبه، وأشعل نارًا في صهيون فأكلت أسسها. لم تصدق ملوك الأرض وكل سكان المسكونة أن العدو والمبغض يدخلان أبواب أورشليم" (مراثي 4: 11 و12). "ويل لنا لأننا قد أخطأنا. من أجل هذا حزن قلبنا. من أجل هذا أظلمت عيوننا. من أجل جبل صهيون الخرب. الثعالب ماشية فيه" (مراثي5: 16-18). ويلخص إرميا هذه الأحداث بالقول: "فسبى يهوذا من أرضه" (إرميا 52: 27، 2مل 25: 21).
(14) السبي الرابع في 581ق.م:
نقرأ في نبوة إرميا عن الدفعات الثلاث الأخيرة من السبي البابلي. ففي السنة السابعة لنبوخذ نصر ملك بابل (أي في 597ق.م) سبى نبوخذ نصر 3.023 من اليهود، وفى السنة الثامنة عشر (أي في 586ق.م) سبى 832 شخصاً . وفى السنة الثالثة والعشرين (أي في 581ق.م) سبى نبوزرادان رئيس الشرط 745 شخصاً من اليهود. أي أن جملة النفوس أربعة آلاف وست مائة (إرميا 52: 28-30، انظر أيضاً 2مل 24: 14-16).
ويقدر جورج آدم - بناء على ما جاء في سفر الملوك الثاني ونبوة إرميا أن مجموع المسبيين كان يتراوح بين 62.000، 70.000 نسمة. ففي 606 ق.م سُبي أفراد من النسل الملكي وشرفاء يهوذا (دانيال 1: 1-4). وفى 597ق.م سبي الأمراء والشرفاء والصناع والأقيان ولم يترك سوى "مساكين شعب الأرض" (2مل 24: 14). وفى 586 ق.م سُبي "بيقة الشعب الذين بقوا في المدينة" ولكنه أبقى من مساكين الأرض "كرامين وفلاحين" (2مل 25: 12). وفى 581ق.م وهي السنة الثالثة والعشرون لنبوخذ نصر، سبى نبوزرادان رئيس الشرط سبع مئة وخمساً وأربعين نفساً (إرميا 52: 30). وهكذا لم يترك سوى مجموعة من مساكين الفلاحين غير المثقفين بلا هيكل ولا قائد وبلا تنظيم، أنهكهم الجوع وأحاط بهم الأعداء من كل جانب. كانوا كمية مهملة، بل صاروا عبئاً على الذين عادوا من السبي وأعادوا بناء الأمة.
(15) جدليا حاكم يهوذا:
عُيِّن جدليا حاكماً على الباقين في البلاد، فجعل من المصفاة مقراً لحكمه، ومعه حامية بابلية. وتُرك لإرميا الخيار في الذهاب إلى بابل أو البقاء فى يهوذا، ففضل البقاء مع الشعب الذين أُوكل أمرهم لجدليا. وبمقتل جدليا على يد إسماعيل بن نثنيا، من النسل الملكي، بدا وكأن مملكة يهوذا قد انتهت تماماً، ولن تقوم لها قائمة أبداً. ورغم مشورة إرميا قررت البقية - بقيادة يوحانان بن قاريح - اللجوء إلى مصر. وأصروا على أخذ إرميا وباروخ بن نيريا معهم . وفى مصر قضى إرميا أيامه الأخيرة. وقد اكتشفت مؤخراً في جزيرة فيله بالقرب من أسوان في صعيد مصر، مخطوطات تركها أحفاد أولئك اليهود الذين نزلوا إلى مصر. وهي تتكون من مخطوطات بردية بالأرامية تعود إلى تاريخ لا يتجاوز المائة عام بعد موت إرميا. وهي عبارة عن حسابات وعقود وصكوك من أنواع مختلفة، نستدل منها على أنه في القرن الخامس قبل الميلاد، كانت تقيم هناك جالية يهودية تعيش منعزلة، وتعبد "يهوه" لا سواه. وكان لها هيكل ومذبح وذبائح، كما كان يفعل أجدادهم في أورشليم قبل تدمير الهيكل. وتقدم لنا هذه البرديات لمحات عن الظروف الاجتماعية والدينية التي عاشها أولئك اللاجئون.
(16) المسبيون في بابل:
نعرف بعض الأمور عن المسبيين الذين سباهم نبوخذ نصر وأسكنهم على ضفاف أنهار بابل، من نبوات حزقيال ودانيال ومزامير السبي. كما نقرأ في نبوات حجي وزكريا، وفى سفري عزرا ونحميا عن ترميم أسوار أورشليم وإعادة بناء الهيكل، وكشفت لنا الألواح المكتوبة بالخط المسماري والتى اكتشفت في حفائر مدينة "نبُّور" الكثير عن الأحوال الاجتماعية للمسبيين. ونجد بين الأسماء المسجلة في هذه الألواح المسمارية المحفوظة الآن في المتحف العثماني بالقسطنطينية، عدداً من الأسماء اليهودية بين رجال الأعمال في "نُّبور" ترجع إلى أيام أرتحشستا الأول وداريوس الثاني (464-405ق.م). ومما يستلفت النظر أن الكثير من هذه الأسماء هي أسماء نقرأها فى سلاسل الأنساب الواردة في أسفار الملوك والأخبار وعزرا ونحميا. ويذكر التلمود أن "نبوّر" هي "كلنة" (تك 10: 10)، وأن نهر خابور في أرض الكلدانيين الذي رأى عنده حزقيال النبي رؤياه، أصبح معروفاً الآن أنه كان قناة ملاحية واسعة لا تبعد كثيراً عن "نبوّر".
(17) ظهور اليهودية وتطورها:
لا يمكن المغالاة في وصف أثر السبي كعامل في تطور "اليهودية"، فسبي يهوذا (كما يقول دكتور فوكس جاكسون) كان من أهم الأحداث في التاريخ الديني. فبالسبي "ينتهي تاريخ إسرائيل ويبدأ تاريخ اليهود". فإذ وجدوا أنفسهم بين شعوب وثنية، انفصلوا عن نجاسات جيرانهم، وتعلقوا بإيمان الآباء بإله إبراهيم. وإذ تعرضوا للسخرية والاحتقار من الأمم حولهم، تقوقعوا على أنفسهم وكوَّنوا مجتمعات منعزلة، أصبحت طابعاً لهم. لقد أصبحوا بلا وطن، وبلا طقوس، وبلا أساس مادي لحياتهم كشعب، فأدركوا أكثر من ذي قبل أهمية تراثهم الروحي الذي وصل إليهم من العصور الماضية، فبنوا قوميتهم - في محيطهم الجديد - على أساس الدين. لقد شجعهم أنبياؤهم -وبخاصة إرميا وحزقيال - بالكلام عن البركات الروحية التي لهم، وبالوعد بالعودة. فكما كان الأنبياء صريحين في الإنذار بالسبي، كذلك كانوا في التنبؤ بالعودة. فإشعياء بحديثه عن البقية، كما أن ميخا وصفنيا وإرميا وحزقيال وغيرهم، قد أناروا الأفق أمام الأمة بالحديث عن يقين العودة، ليس ليهوذا فقط بل لكل إسرائيل. فستعود جبال السامرة ووديان يهوذا تزهو بكرومها وتينها . بل لقد تنبأ إرميا عن مدة السبي عندما ذكر أن شعوب الأراضي سيخدمون ملك بابل سبعين سنة (إرميا 25: 12، 29: 10). وهكذا لم يجد المسبيون لهم من سند إلا في التمسك بشريعة موسى، فأصبحت الشريعة والمجتمع هما رابطة العقد.
(18) العودة بأمر كورش في 538ق.م:
عندما استولى كورش الفارسي على بابل وقضى على الإمبراطورية البابلية في 539 ق.م. انتعشت آمال المسبيين، فقد كان كورش "الفأس" التي سيسحق بها "يهوه" بابل (إرميا 51: 20). وقد تنبأ إشعياء قائلاً: "(الرب) القائل عن أورشليم ستعمر ولمدن يهوذا ستُبنين وخربها أقيم، القائل للُّجَّة انشفي وأنهارك أجفف . القائل عن كورش راعَّي فكل مسرتي يتمم، ويقول عن أورشليم ستبنى وللهيكل ستؤسس" (إش44: 26-28).
(19) إعادة يناء الهيكل في 536ق.م:
لم تمض سنة على دخول كورش إلى بابل، حتى أصدر مرسوماً بمنح المسبيين الإذن بالعودة وبناء بيت الرب فى أورشليم (2أخ 36: 22 و23، عز1: 1-4). كما أخرج آنية الهيكل التي أحضرها نبوخذ نصر إلى بابل وسلَّمها إلى شيشبصر رئيس يهوذا، فأصعدها شيشبصر معه عند "إصعاد السبي من بابل إلى أورشليم" (عز1: 7-11).
ونجد أخباراً مفصلة عن العودة في سفري عزرا ونحميا وفى نبوتي حجي وزكريا. وقد رجع من المسبيين 42.360 بقيادة شيشبصر علاوة على العبيد. وفى أيام يشوع بن صادوق الكاهن وزربابل بن شألتئيل، بنوا المذبح ووضعوا أساسات الهيكل، ولكن العمل توقف لمقاومة السامريين لعدم الإذن لهم بالمشاركة فى البناء. وهنا قام النبيان حجي وزكريا بحث الشعب على استئناف العمل وتشجيعهم بالقول بأن مجد هذا البيت سيكون أعظم من مجده الأول (حجي 2: 9). وأخيراً في شهر أذار في السنة السادسة لداريوس الملك (515ق.م) تم العمل واحتفلوا بالفصح فيه (عز 6: 15-18).
(20) إصلاحات عزرا ونحميا:
صمت التاريخ المقدس لبضعة عقود من السنين. وفى 458ق.م. شرع عزرا فى العودة إلى أورشليم ومعه نحو 1.800 شخص، ووجد أن اليهود الراجعين من السبي قد تحالفوا وتزاوجوا مع شعب الأرض، وأصبحوا في خطر فقدان مميزاتهم القومية بالاختلاط بالوثنيين (عز9). ولكن أمكن تجنب هذا الخطر نتيجة لجهوده وجهود نحميا وأقوال ملاخي النبي. وبعد ذلك بثلاث عشرة سنة (445ق.م) سمع نحميا - ساقي الملك "أرتحشستا" - بحالة الخراب في المدينة المقدسة، مدينة قبور آبائه، فحصل على إذن من الملك لزيارة أورشليم، وأعطاه الملك رسائل توصية للحكام على الطريق وللحراس على غابة الملك. وأخيراً وصل بسلام إلى أورشليم، واستكشف بنفسه حالة الأسوار، ودعا الشعب للعمل لترميم الخرائب. ورغم كل عداء وافتراء من جانب السامريين، أمكنه أن يرى العمل وقد أكمل وأقيمت الأبواب وامتلأت المدينة بسكانها. وجميع نحميا وعزرا الشعب ليستمع إلى الشريعة حيث قرأوها وفسروها للشعب، وقطعوا عهداً أن يحفظوا ناموس موسى، وألا يتزاوجوا مع الوثنيين، وأن يحفظوا السبت، وأن يدفعوا ثلث الشاقل كل سنة لخدمة الهيكل ، وأن يقدموا الباكورات والعشور (نح 10: 28-39).
(21) نظريات حديثة عن العودة:
هناك بعض العلماء الذين ينكرون عودة المسبيين في أيام كورش الملك، ويزعمون أن إعادة يناء الهيكل قام بها اليهود الذين بقوا من السبي في يهوذا وفى أورشليم، ويبنون نظريتهم على أساس رفضهم لتاريخية سفري عزرا ونحميا. ولكن ليس بالسفرين من الصعوبات ما يدعو إلى إنكار حقيقة عودة المسبيين، وما عمله كل من عزرا ونحميا. ففيما يتعلق بالعودة نجد أن سياق القصة تؤيده الوثائق التي تحمل طابع الحق التاريخي الذي لا يحتمل جدلاً. كما أن عملاً عظيماً يحتاج إلى كل هذه الطاقة والمهارة والإيمان، لم يكن ممكناً أن يقوم به الباقون من الشعب دون معونة قوية من الخارج، فقد عرفنا أنه لم يبق في البلاد سوى الضعفاء والمساكين الذين لا يمكن أن ينتظر منهم القيام بمثل هذا العمل الضخم. كما أن صمت حجي عن موضوع العودة، لا يمكن أن يكون أساساً سليماً لإنكار العودة. وكل قصة السبي تؤيد القول بأن اليهود الباقين كانوا في حاجة ماسة إلى العائدين من بابل ليشعلوا فيهم الغيرة والحماس للعمل.
(22) أهمية فترة عزرا ونحميا:
لقد كان لعصر نحميا والفترة التي سبقته مباشرة نتائج حاسمة، كان لها أبعد الأثر في المستقبل. ففي خلال هذه المائة من السنين (كما يقول دكتور "هاي هنتر" Hay Hunter - في كتابه "بعد السبي"): "أصبح تعليم موسى أساس الحياة القومية، كما تحددت الأسفار المقدسة، وتمت صياغة المجتمع اليهودي على الصورة التي لم يطرأ عليها تغيير جذري طيلة القرون التالية. ففي خلال ذلك العهد، ظهرت القوى التي قاومت المسيح، والقوى التي انحازت إليه. فقد رأي ذلك القرن قيام الجماعات التي عرفت فيما بعد بأسماء الفريسيين والصدوقيين، وجماعة الرببيين (المعلمين اليهود)، وتحدد موقف اليهود من الأمم، ودُفع بالكهنوت إلى مركز السلطة العليا، كما بدأ الانفصال السامري".
# عرض آخر لنفس المُحتوى:-
حدث السبي البابلي ليهوذا علي يد نبوخذراصر ملك بابل الكلداني. فبينما تعرضت المملكة الشمالية (إسرائيل) للكثير من الانقلابات وقيام أسرات ملكية في تعاقب سريع، ظلت مملكة يهوذا موالية لبيت دواد، وقد ساعد علي ذلك وجود الهيكل والكهنوت في أورشليم عاصمة يهوذا، وقد استمرت مملكة يهوذا نحو 150 سنة بعد القضاء علي المملكة الشمالية – (إسرائيل) علي يد الأشوريين.
1- إنحلال الامبراطورية الأشورية: فبعد سرجون الذي غزا السامرة في 722 ق.م. جلس علي عرش أشور بعض الملوك العظام الذين اشتهروا بفتوحاتهم والمباني الكثيرة التي أقاموها والكتابات والنقوش العديدة التي خلفوها، مثل سنحاريب وآسرحدون وأشور بانيبال. وعندما مات أشور بانيبال في 625 ق.م.، كانت الامبراطورية الأشورية قد أوشكت علي الانحلال، فضعفت قبضتها علي الأقطار الغربية، وبدأت الشعوب الخاضعة للجزية في التمرد وشق عصا الطاعة، فزحفت حجافل السكيثيين – وهم قبائل بدوية من الجنس الآري – من المنطقة المحصورة بين جبال القوقاز وبحر قزوين، علي الامبراطورية الأشورية حتي وصلت إلي فلسطين وحدود مصر. وتلقي نبوات إرميا وصفنيا الضوء علي أسلوبهم في الحرب وطبائعهم الشرسة، ولكن مصر صدتهم، ويبدو أنهم عادوا أدراجهم شمالاً دون أن يحاولوا غزو يهوذا.
2- سقوط نينوي في 606 ق. م. : أطبقت هذه الجحافل الزاحفة من الشمال علي نينوي، وكانت قوة أشور قد بدأت في الاضمحلال في كل ناحية. ويتنبأ النبي ناحوم في " وحي علي نينوي " عن ابتهاج يهوذا بسمع الأخبار المفرحة عن سقوط نينوي القريب " " هوذا علي الجبال قدماً مبشر مناد بالسلام! عيدي يايهوذا أعيادك أو في نذورك، فإنه لايعود يعبر فيك أيضاً المهلك – قد انقرض كله" (1:5 مع 3:8 – 11)، واستعاد الميديون استقلالهم وتحالفوا بزعامة ملكهم سياجزارس مع الكلدانيين الذين سرعان ما ثاروا بقيادة نبو بولاسار نائب الملك علي بابل، وحشد نبو بولاسار حوله كل هذه القوي المتمردة وحاصر نينوي عاصمة اشور في 606 ق.م. فسقطت نينوي التي كانت قصبة المملوك الاقوياء والفاتحين العظام، والتي أكثرت تجارها أكثر من نجوم السماء ( ناحوم 3:16). سقطت نينوي مرة واحدة ونهائياً أمام حجافل الميديين والكلدانيين، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك.
3- تمرد فرعون نخو: ولا ريب في أننا نفهم دواعي ابتهاج يهوذا بسقوط نينوي والامبراطورية التي تمثلها. لقد نجت أورشليم برحمة الله من حصار سنحاريب لها قبل ذلك بنحو قرن من الزمان، عندما سبي من البلاد المحيطة بها 150 ,200 من النفوس، ودمر مافيها من مدن وحصون. ولكن نير أشور البغيض استقر علي يهوذا للنهاية، وليس علي يهوذا فحسب، بل وعلي مصر ووادي النيل. وفي 608 ق.م. تمرد فرعون نخو ملك مصر علي سيده ملك أشور، وعزم علي الزحف شرقاً، ولم يكن في نيته أن يحارب يوشيا ملك يهوذا، الذي كان لابد أن يعبر في أرضه، ولكن يوشيا – موالاة لسيده ملك أشور – اعترض طريق المصريين، فقتله فرعون نخو في معركة مجّدو (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). ويبدو أن فرعون عاد إلي مصر وأخذ معه يهوآحاز بن يوشيا، وأقام عوضاً عنه أخاه يهوياقيم ملكاً علي يهوذا بعد أن غرَّم يهوذا جزية كبيرة (مئة وزنة من الفضة ووزنة من الذهب – 2 مل 23: 31 – 34).
4- هزيمة نخو في كركميش في 604 ق. م. : لم يرجع نخو عن غايته في تكوين امبراطورية شرقية، فسار في طريقه حتي بلغ نهر الفرات حيث تقابل مع الجيوش البابلية بقيادة نبوخذراصر، فهزمه بنوخذراصر هزيمة منكرة في موقعة كركميش في 604 ق.م.، وبذلك أصبح الكلدانيون سادة أسيا الغربية بلا منازع، وأصبحت مملكة يهوذا خاضعة للنفوذ البابلي بعد أن كانت خاضعة للنفوذ الأشوري.
5- الامبراطورية البابلية الجديدة في زمن نبوخذراصر من 604 – 562 ق.م.: ولم يكن هناك فرق كبير بين قسوة طغيان السادة الجدد وطغيان السادة السابقين، حيث يصف حبقوق الامبراطورية الكلدانية بالقول:"الأمة المرة القاحمة … خليها أسرع من النمور وأحد من ذئاب المساء، وفرسانها ينتشرون، وفرسانها يأتون من بعيد ويطيرون كالنسر المسرع إلي الأكل" (حب 1: 7 و
. وبعد موقعة كركميش، أصبح نبوخذراصر سيداً علي كل أسيا الغربية بما فيها يهوذا، وكان من العبث أن تحاول يهوذا الارتماء في أحضان مصر، وهي تري أن لنبوخذراصر ذراعاً طويلة وقوية يستطيع بها تأديب من يخرج من عبيده عن طاعته.
وكانت رسالة إرميا النبي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ يهوذا، وهي أن السبيل الوحيد للنجاة من نقمة الله التي توشك أن تقع علي البلاد والشعب، هو الخضوع والطاعة لملك بابل والإِصلاح الأدبي بعد أن استشري الفساد. ويخبرهم باسم الرب، بالدينونة الوشيكة الوقوع علي يد الكلدانيين علي أوشليم والشعوب المجاورة، بل إنه ينبئهم بمدة خضوعهم للكلدانيين: "وتصير كل هذه الأرض خراباً ودهشاً وتخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة" (ارميا 25: 11). ولكن لم تكن رسالة إرميا هذه مقبولة عند أنصار مصر وعند الذين كانوا يعتقدون في مناعة أورشليم. ولكن النبي أعلن مصير أورشليم في عبارات صارمة وتصوير قوي، فأدي رسالته بكل أمانة في مواجهة اضطهادات عنيفه بل والمخاطرة بحياته.
6- تمرد يهوياقيم وعقابه في 608 – 597 ق.م.: كان يهوياقيم – الذي كان خاضعاً أولاً لفرعون نخو، ثم لنبوخذراصر – مثالاً صادقاً لما كان عليه شعبه من فساد وشر، فقد وبخه إرميا علي الطمع وسفك الدم الزكي والاغتصاب والظلم (ارميا 22: 13 – 19). وكانت السنة الرابعة ليهوياقيم هي السنة الأولي لنبوخذراصر، الذي انتشي بنصره في موقعة كركميش، فبسط سطوته علي العالم الغربي، وأصبح ملك يهوذا الذليل خاضعاً لنبوخذراصر، واستمر في ولائه له ثلاث سنوات " ثم عاد فتمرد عليه " ولكنه لم يجد تشجيعاً أو معاونة من الشعوب المجاورة، بل بالحري "أرسل الرب عليه غزاة الكلدانيين وغزاة الأراميين، وغزاة الموآبيين وغزاة بني عمون، وأرسلهم علي يهوذا ليبيدها حسب كلام الرب الذي تكلم به عن يد عبيده الانبياء" (2 مل 24: 2). وتاريخ يهوياقيم بعد ذلك، يحوطه الغموض، فنقرأ في سفر الملوك الثاني، أنه بعد أن ملك احدي عشرة سنة، اضطجع مع آبائه (2 مل 23: 36، 24 : 6) مما نفهم أنه مات موتاً طبيعياً. ونقرأفي نبوة دانيال ":" أنه في السنة الثالثة من ملك يهوذا ذهب نبوخذاصر ملك بابل إلي أورشليم وحاصرها " وأخذ معه – بالإِضافة إلي آنيه بيت الله – أفراداً من النسل الملكي ومن أشراف يهوذا، كان منهم دانيال النبي، ويبدو من سفر أخبار الأيام الثاني، أنه كان بينهم أيضاً الملك يهوياقيم نفسه:" عليه صعد نبوخذناصر ملك بابل وقيده بسلاسل نحاس ليذهب (؟) به إلي بابل" (2 اخ 36: 6). ويضيف المؤرخ في سفر الملوك بعد أن سجل موت يهوياقيم، هذه العبارة الهامة:" ولم يعد أيضاً ملك مصر يخرج من أرضه لأن ملك بابل أخذ من نهر مصر إلي نهر الفرات كل ماكان لملك مصر" (2 مل 24: 7).
7- حصار أورشليم واستسلامها في عهد يهوياكين في 597 ق.م. : ملك يهوياكين الذي خلف أباه يهوياقيم، ثلاثة اشهر، وهي نفس المدة التي ملكها عمه يهوآحاز المسكين ( 2 مل 23: 31). وقد سُبي يهوآحاز إلي مصر، أما يهوياكين فقد سُبي إلي بابل، وكانا موضوع المرثاة الرائعة التي أمر الرب حزقيال أن يرفعها علي رؤساء إسرائيل، حيث يشبهما بشبلين ابني لبوءة هي إسرائيل تعلما افتراس الفريسة والتهام الناس، ولكنهما أُخذا في حفرة الأمم ووضعا في قفص بخزائم حتي لايسمع صوتهما بعد علي جبال إسرائيل (حز 19: 1 – 9).
8- السبي الاول في 597 ق.م.: جاء نبوخذنصر بنفسه بينما كان عبيده يحاصرون أورشليم، فاستسلم يهوياكين علي الفور، فأخذ نبوخذنصر يهوياكين وأمه وعبيده ورؤساءه وقواده وجميع جبابرة البأس حتي بلغ عددهم عشرة الآف، " لم يبق إلا مساكين شعب الارض " … " وأخرج من هناك جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وكسَّر كل آنية الذهب التي عملها سليمان ملك إسرائيل في هيكل الرب كما تكلم الرب " … وجميع أصحاب البأس سبعة ألآف والصناع والأقيان ألف وجميع الأبطال أهل الحرب سباهم ملك بابل إلي بابل. وملك ملك بابل متنيا عمه عوضاً عنه وغير اسمه إلي صدقيا" (2 مل 24: 10 – 17). وتبدأ مدة السبي البابلي بسبي يهوياكين الملك في 597 ق.م. وقد عاش هذا الملك المسكين مدة 38 سنة في السبي، ويبدو أنه استعاد احترام وولاء المسببين الذين عاش بينهم.
ويشير إرميا إلي سبي الرؤساء والصناع والأقيان، برؤيته التي رأي فيها سلتي التين، في إحدهما تين جيد مثل التين الباكوري، وفي الأخري تين رديء جداً لايؤكل من رداءته ( إرميا 24: 1 – 3). والتين الجيد إشارة إلي سبي يهوذا الذي أخذ إلي أرض الكلدانيين للخير، أما التين الرديء فإشار إلي صدقيا الملك ورؤسائه وبقية أورشليم الذين ستنصب عليهم دينونات قاسية حتي يفنوا عن وجه الارض.
9- خدمة حزقيال: كان بين المسبيين إلي بابل الذين وضعوا علي ضفاف نهر خابور، النبي الكاهن حزقيال، وفي السنة الخامسة من السبي بدأ يري " رؤي الله العجيبة ويوضح معانيها للمسبيين عند انهار بابل .. ولم يستطع حزقيال أن يكلم المسبيين البائسين والمثقلين بالهموم من جهة مملكة يهوذا التي لم تكن قد انهارت بعد ومن جهة المدينة المقدسة التي لم تكن قد احترقت بعد، لم يستطع ان يكلمهم إلا بالرموز والاستعارات عن دمار المدينة والأمة إلي اليوم الذي وصلتهم فيه أخبار سقوطها بالكامل، فبدأ بعد ذلك يكلمهم لا بالمراثي مثل تلك التي تكلم بها إرميا، بل بالحري بنبوات مفرحة عن المدينة وقد أعيد بناؤها، والمملكة وقد أعيد تأسيسها، وعن هيكل جديد مجيد.
10- خدمة إرميا في أروشليم من 597 – 588 ق. م. : رغم أن زهرة السكان قد سبوا إلي بابل، ونهبت كنوز الهيكل، فإن المدينة والهيكل ظلا قائمين. وكان لدي إرميا رسالة للباقين في البلاد وكذلك للمسبيين في بابل. فقدم نصائحه للمسيبين بالخضوع والاستقرار، وكيف أن العبادات الوثنية البغيضة المحيطة بهم يجب أن تدفعهم للعودة إلي ناموس الههم وهكذا تعمل علي تجديدهم أدبياً وروحياً: " هكذا قال الرب … أعطيهم قلباً ليعرفوني أني أنا الرب فيكونوا لي شعباً وأنا أكون لهم إلهاً لأنهم يرجعون إلَّي بكل قلبهم" (إرميا 24 : 5، 7). اما نبواته "لبقية أورشليم " ونصائحه لهم، فكانت قاسية عرضته للشك في ولائه لشعبه ولإلهه، ولم يكن في تحذيراته ما هو أعمق أثراً من الربط والآنيار التي أمره الرب أن يصنعها لنفسه ويجعلها علي عنقه ويرسلها إلي ملوك أدوم وموآب وعمون وصور وصيدون الذين يبدو أنهم كانوا يفكرون في تكوين حلف مع صدقيا ضد نبوخذراصر (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). وقد اضطر الملك صدقيا للخضوع ولكنه ظل يعلل نفسه بأن ملك بابل سيسمح للمسبيين من يهوذا بالعودة، وقد ذهب هو نفسه إلي بابل، ربما بدعوة من سيده ملك بابل (إرميا 51: 59). ولوجود حزب موال لمصر في أورشليم كان يحرض الملك علي التحالف مع مصر، ولوجود فرعون شاب ميال للحرب، علي عرش مصر – هو خفرع (إبريس) – ظن صدقيا أن الفرصة مواتية للحصول علي الاستقلال، فتآمر مع ملك مصر وتمرد علي ملك بابل (2 مل 24: 20).
11- تمرد صدقيا وحصار أورشليم، 588 – 586 ق.م.: لقد كان تمرد صدقيا مغامرة جريئة، ولكن نبوخذراصر لم يكن ليقبل مثل هذا العصيان من أتباعه، فزحف في الحال إلي الغرب، وأوكل إلي نبوزرادن مهمة الأستيلاء علي أورشليم، أما هو نفسه فقد جعل مقر قيادته في ربلة علي نهر الأورنت في سوريا، وفي هذه الأثناء اجتاز فرعون الحدود علي رأس جيشه لنجدة حلفائه، فاضطر الكلدانيون إلي رفع الحصار عن أورشليم لمقابلته في العراء (ارميا 37: 5)، ولكن فرعون خانته شجاعته وأثر السلامة، فرجع بسرعة بدون الدخول في معركة، فعاد بنوزردان إلي حصار أورشليم حصاراً اشدَّ من الحصار الاول.
وفي الفترة القصيرة التي شم فيها المحاصرون أنفاسهم لانسحاب الكلدانيين، خرج إرميا من أورشليم ليذهب إلي موطنه في عناثوث علي بعد نحو اربعة أميال إلي الشمال الشرقي عبر الجبل، لشأن عائلي (ارميا 37: 11 – 15) واكتُِشف رحيله، فقبض عليه واتهم بأنه يقع إلي الكلدانيين، ووضعوه في بيت السجن في بيت يوناثان الكاتب، وبينما هو هناك أرسل الملك صدقيا وأخذه وسأله سراً، وقال له: "هل توجد كلمة من قبل الرب ؟ " فاجأبه إرميا بدون وجل: "توجد … إنك تدفع ليد ملك بابل ". وقد تمتع إرميا، بعد ذلك – بتدخل من الملك صدقيا – بقسط أكبر من الحرية. ولكن بسبب مواصلته المناداة في آذان الشعب بضرورة التسليم، تآمر أعداؤو علي قتله، فألقوه في جب موحل لاماء فيه، حيث تعرض لخطر الموت اختناقاً أو جوعاً. ومرة أخري سعي الملك لمقابلة إرميا وأعدَّ إياه سراَّ بانه لن يقتله ولن يدفعه إلي أيدي أعدائه ليقتلوه، فنصحه ارميا مرة اخري بالتسليم، وظل ارميا يتمتع بقسط من الحرية.
12- تدمير أورشليم في 586 ق.م.: لكن المدينة كانت علي وشك أن تلقي مصيرها، " ففي السنة الحاد ية عشرة لصدقيا (586 ق.م.) في الشهر الرابع في تاسع الشهر فتحت المدينة" (ارميا 39: 1 و2 ) فانقض الكلدانيون عليها بعد أن كانت شهور الحصار والجوع قد فعلت فعلها. ويبدو أن صدقيا وكل رجال الحرب لم ينتظروا نهاية الهجوم بل هربوا "ليلاً من المدينة في طريق جنة الملك من الباب بين السورين " وساروا شرقاً في طريق العربة، ولكن جيش الكلدانيين سعر وراءهم " فأدركوا صدقيا في عربات أريحا " فأخذوه أسيراً وأتوا به إلي نبوخذراصر إلي ربلة فقتل ملك بابل بني صدقيا في ربلة أمام عينيه، وقتل كل أشراف يهوذا، ثم قلع عيني صدقيا. وفي تلك المرة لم تنج المدينة ولا الهيكل ولا القصر " وأحرق (نبوزردان) بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار" (2 مل 25: 9)، وهدم جنوده ايضا جميع أسوار أورشليم مستديرا. ًوكل كنوز الهيكل وأمتعته الثمينه – التي أفلتت من النهب في المرة الاولي – أخُذت إلي بابل. لقد حاق الدمار الكامل بأورشليم. ويسجل سفر المراثي مدي ماأحس به شاهد عيان، من حزن وعار وندامة علي المسبيين وخراب المدينة المقدسة: "أتم الرب غيظه، سكب حمو غضبه وأشعل ناراً في صهيون فأكلت أسسها. لم تصدق ملوك الارض وكل سكان المسكونة أن العدو والمبغض يدخلان أبواب أورشليم.. ويل لنا لأننا قد أخطأنا. ومن أجل هذا حزن قلبنا. ومن أجل هذه أظلمت عيوننا. ومن أجل جبل صهيون الخرب. الثعالب ماشية فيه" (مراثي 4: 11 و12، 5: 16 – 18).
13- السبي الثاني في 586 ق.م.: يقول النبي إلذي عاصر حصار المدينة وسقوطها: "فسُبي يهوذا من أرضه" (إرميا 52: 27)، ويبدو شيء من الغموض في أعداد المسبيين، فنقرأ في ارميا (52: 28 – 30) عن ثلاث دفعات للسبي، ففي 597 ق.م. سبي 3,023من اليهود، وفي 586 ق. م. سبي نبوخذراصر 832 نفساً.
14- السبي الثالث في 581 ق.م.: وفي 581 ق.م. سبي نبوزرادان رئيس الشرط 745 نفساً من اليهود، فتكون جملة النفوس 4,600 (ارميا 52: 30). ونجد في سفر الملوك الثاني (24: 15 و 16) أن نبوخذراصر قد سبي في 597 ق.م. ثمانية الاف. ويقدر دكتور جورج آدم سميث – بعد دراسة كل البيانات – أن أكبر رقم محتمل هو 62,000 – 70,000 من الرجال والنساء والاطفال (أي أقل من النصف السكان). ففي 597 ق.م. أخذ نبوخذراصر الرؤساء والشرفاء والصناع والأقبان تاركاً فقط مساكين شعب الارض (2 مل 24: 14). وفي 586 ق.م. سبي نبوزرادان بقية الشعب الذين تركوا في المدينة، ولكنه أبقي من مساكين الأرض كرامين وفلاحين" (2 مل 25: 12)، ويقول دكتور جورج آدم سميث (في كتابه: "أورشليم" – المجلد الثاني، 268 – 270): "لقد كانوا – كما يذكر الكتاب – مساكين شعب الارض، قد أخذ من بينهم كل إنسان لديه مال أو قوة، مجرد مجموعات من الفلاحين بلاقائد وبلا مركز، مشتتين مكتئبين، يعضهم الجوع بأنيابه، ويحيط بهم الأعداء من كل جانب، غير متعلمين، فريسة سهلة للوثنية التي كانت تحاصرهم. ونحن نقدر صمت الكتاب بخصوصهم، مما جعلنا لانعرف أعداهم علي وجه اليقين لقد كانوا كمية مهملة بالنسبة لمستقبل إسرائيل دينياً، كانوا بلاحافز، لاحول ولاطول لهم، بل كانوا عبئاً ثقيلاً علي قادة الأمة الذين أعادوا بناءها بعد العودة من بابل ".
15- جدليا حاكم اليهود: أقام نبوخذراصر ملك بابل جدليا بن أخيقام والياً علي الشعب الذي بقي في أرض يهوذا، وجعل مقره في المصفاة، ومعه حامية من البابليين للحراسة. وكان أمام إرميا أن يختار بين البقاء في أرض يهوذا أو الذهاب إلي بابل، ولكنه فضل البقاء مع بقية الشعب تحت رعاية جدليا. وبمقتل جدليا بيد إسماعيل بن نثنيا من النسل الملكي – الذي نجا بعد ذلك بنفسه وهرب إلي بني عمون – بدا أنه قد باد آخر أثر لمملكة يهوذا. وأخذ يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معه كل بقية الشعب الذين استردهم من إسماعيل بعد مقتل جدليا، وعزم علي السير إلي مصر – رغم نصيحة إرميا – وصمموا علي أن يأخذوا معهم إرميا وباروخ ( ارميا 43: 1 – 7). وهناك في مصر – وسط مشاهد الاحباط وخيبة الأمل التي كانت تحيط بهم – سجل ارميا لنا المرحلة الأخيرة من سقوط يهوذا.. وقد اكتشفت آثار هامة لسلالة أؤلئك الذين استوطنوا مصر. وتتكون هذه الآثار من برديات بالأرامية وجدت في أسوان، ترجع إلي عصر لا يتجاوز القرن بعد موت إرميا. وهذه الوثائق عبارة عن حسابات وعقود وصكوك عقارية من كل نوع، نعرف منها أنه في القرن الخامس قبل الميلاد كان هناك يهود – منفصلون عن الآخرين كالعهد بهم – يعبدون الرب " يهوه " ولايعبدون معه إلهاً آخر، بل لقد كان لهم معبد ومذبح للمحرقات التي كانوا يقدمونها لله كما فعل آباؤهم في أورشليم قبل تدمير الهيكل. وهذه البرديات تعطينا لمحات – عظيمة القدر – عن الحالة الاجتماعية والاهتمامات الدينية لاولئك المستوطنين.
16- المسبيون في بابل: ونعلم شيئاً عن أحوال المسبين الذين نقلهم نبوخذراصر إلي بابل فأقاموا علي ضفاف أنهارها، من بنوات دانيال ونبوات حزقيال ومزامير السبي. ونعرف من نبوات حجي وزكريا كيف فكروا في إعادة بناء الهيكل وكيف أتموه. والاكتشافات التي أسفر عنها التنقيب في نيبّور، تلقي أمامنا ضوءاً قوياً علي الحالة الاجتماعية للمسبيين. وهناك ألواح بالخط المسماري – محفوظة الآن في المتحف العثماني باستانبول، بين ملفات أعمال شركة موراشو الفنية من أبناء نيبّور في أيام أرتحشستا الأول وداريوس الثاني (464 – 405 ق.م.) – نقرأ فيها عدداً ملحوظاً من الأسماء اليهودية. ومما يسترعي الانتباه أن الكثير من هذه الأسماء أسماء مألوفة لنا من قوائم الأنساب الموجودة في أسفار الملوك والأخبار وعزرا ونحميا. ويستنتج بروفسور هلبرخت (في كتاب: البعثة البابلية – المجلد التاسع – 13 ومابعدها) من فحص هذه الألواح أن عدداً كبيراً من المسبيين اليهود الذين جاء بهم نبوخذراصر بعد تدمير أورشليم، قد استقروا في نيبّور وماحولها، وهناك أدلة كثيرة علي هذه الحقيقة. وفي هذه الوثائق مايؤيد ماجاء بالتلمود من أن نيبّور هي كلنة (تك 10: 10). ونعلم من النقوش المكتشفة أن " نهر خابور في أرض الكلدانيين " الذي رأي عنده حزقيال رؤياه، كان قناة واسعة صالحة للملاحة لا تبعد كثيراً عن نيبّور.
17- قيام اليهودية وتطورها: لايمكن المغالاة في تقدير أثر السبي في تطور اليهودية، فكما يقول الدكتور فوكس جاكسون (في التاريخ الكتابي للعبرانيين، 316): "إن السبي هو أحد الأحداث العظيمة في تاريخ الديانة … فبالسبي أنتهي تاريخ إسرائيل، وبدأ تاريخ اليهود"، فوجودهم في وسط ذلك الخضم من الأمم الوثنية، جعل الجالية اليهودية تبتعد عن كل رجاسات المحيطين بهم، وتلتصق بإيمان آبائهم في إله ابراهيم. ولأنهم كانوا معرضين للازدراء والسخرية من الأمم التي كانت تحتقرهم، كوّنوا دائرة مقفلة علي ذواتهم، وهكذا نشأت عادة الانعزال التي أصبحت من خصائصهم منذ ذلك الوقت. فبعد أن أصبحوا بلا وطن وبلا نظام طقسي وبلا أي أساس مادي لحياتهم كشعب، تعلموا – كما لم يتعلموا من قبل – أن ينظروا بعين التقدير لتراثهم الروحي الذي وصل إليهم من الماضي العريق، فأقاموا هويتهم الوطنية – في محيطهم الجديد – علي أساس ديانتهم، ولقد شجعهم أنبياؤهم، وبخاصة إرميا وحزقيال، وأيدوهم بتأكيد البركات الروحية والوعد بالعودة. لقد كانوا في حاجة إلي مبدأ ثابت دائم لتنظيم كل حياتهم الاجتماعية والعائلية والروحية، وقد دفعت هذه الحاجة قادتهم ومفكريهم إلي الرجوع إلي شريعة موسي والاعتماد عليها، وحل المعلم (الربي) والكاتب في مكانة الكاهن الذي يقدم الذبائح، وشغل المجمع والسبت مركزاً جديداً في حياة الشعب الدينية. لقد نضجت هذه المباديء اليهودية وغيرها، وبلغت أوجها بعد العودة من السبي، فهو الذي خلق الحاجة إليهما. وبينما كان الأنبياء واضحين في التنبوء بالسبي، فإنهم لم يكونوا أقل وضوحاً في التنبوء بالعودة من السبي. فإشعياء – بأقواله عن " البقية " – وكذلك ميخا وصفنيا وإرميا وحزقيال وغيرهم قد أبهجوا